كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الْقَوْلُ فِي الْأُذُنَيْنِ: وَهُمَا إنْ كَانَتَا مِنْ الرَّأْسِ فَإِنَّهُمَا فِي الْإِشْكَالِ رَأْسٌ، وَقَدْ تَفَاقَمَ الْخَطْبُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِمَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ فِي التَّفْرِيعِ، وَفِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فِي الْآثَارِ.
وَاَلَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْك الْخَطْبَ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى قَالَ: {بِرُءُوسِكُمْ} وَلَمْ يَذْكُرْ الْأُذُنَيْنِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي حُكْمِ الرَّأْسِ مَا أَهْمَلَهُمَا، وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًّا.
وَقَدْ رَوَى صِفَةَ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ لَمْ أَجِدْ ذِكْرَ الْأُذُنَيْنِ فِيهَا إلَّا الْيَسِيرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ؛ قَالَ: رَأَيْت «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَأَخَذَ مَاءً لِأُذُنَيْهِ خِلَافَ الْمَاءِ الَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ».
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، رَوَى: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنَهُمَا بِالسِّبَابَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ»؛ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَمِنْهُمْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ؛ قَالَتْ: رَأَيْت «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ، وَمَسَحَ صُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً».
صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الْوُضُوءَ لِمَنْ سَأَلَهُ بِأَنْ تَوَضَّأَ لَهُ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا».
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ الْأُذُنَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ حُكْمًا؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
الثَّانِي: أَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ.
الثَّالِثُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَغْسِلُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مَعَ الْوَجْهِ، وَيَمْسَحُ مَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مَعَ الرَّأْسِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ.
أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا مِنْ الرَّأْسِ فَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ تَذْكُرْهُمَا فِي الْوُضُوءِ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا ذَكَرَتْهُمَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ فَنَزَعَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُجُودِهِ: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ جُمْلَتَهُ، وَالسَّمْعُ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ، وَالْبَصَرُ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْهِ فَالْكُلُّ مُضَافٌ إلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ وَلِلْقَصْدِ، فَأَضَافَهُ إلَى الِاسْمِ الْعَامِّ لِلْمَعْنَيَيْنِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ فَلَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ لَا تَعْضُدُهُ لُغَةٌ، وَلَا تَشْهَدُ لَهُ شَرِيعَةٌ.
وَالصَّحِيحُ أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِمَا، هَلْ هُمَا مِنْ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ الْوَجْهِ؟ وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَهُمَا، فَبَيَّنَ مَسْحَ الرَّأْسِ، وَأَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ كَمَا يُمْسَحُ الرَّأْسُ، وَهُمَا مُضَافَانِ إلَيْهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ خَطَايَا رَأْسِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ: الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَالرَّأْسِ الْخَالِي مِنْ الشَّعْرِ: اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا؛ هَلْ يُمْسَحُ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ عِنْدِي بِمَقْصُودٍ، لَا فِي الرَّأْسِ، وَلَا فِي الْأُذُنَيْنِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتْرُكَهُ مَنْ يَسْتَوْثِقُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْصِدَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ}: ثَبَتَتْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ: الرَّفْعُ، قَرَأَ بِهِ نَافِعٌ، رَوَاهُ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ.
وَالنَّصْبُ، رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ أَوْ الْحُسَيْنُ فَقَرَأَ قَوْلَهُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} فَسَمِعَ عَلِيٌّ ذَلِكَ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ، هَذَا مِنْ مُقَدَّمِ الْكَلَامِ وَمُؤَخَّرِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
وَقَرَأَ أَنَسٌ وَعَلْقَمَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالْخَفْضِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ لِأَنَسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، إنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنَا بِالْأَهْوَازِ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَذَكَرَ الطَّهُورَ، فَقَالَ: اغْسِلُوا حَتَّى ذَكَرَ الرِّجْلَيْنِ وَغَسَلَهُمَا وَغَسَلَ الْعَرَاقِيبَ وَالْعَرَاقِبَ، فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحُجَّاجُ.
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} قَالَ: فَكَانَ أَنَسٌ إذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ بَلَّهُمَا وَقَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْغَسْلِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ افْتَرَضَ اللَّهُ مَسْحَيْنِ وَغَسْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ.
وَقَالَ: مَا كَانَ عَلَيْهِ الْغَسْلُ جُعِلَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْحُ أُسْقِطَ.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْخَبَرِ يُعْمَلُ بِهِمَا إذَا لَمْ يَتَنَاقَضَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ، فَقَدْ يُنْصَبُ عَلَى خِلَافِ إعْرَابِ الرَّأْسِ أَوْ يُخْفَضُ مِثْلُهُ؛ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَصْحَابِهِ رُءُوسُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ لُغَةً وَشَرْعًا.
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُحْتَمَلَةٌ لُغَةً مُحْتَمَلَةٌ شَرْعًا، لَكِنْ تُعَضَّدُ حَالَةُ النَّصْبِ عَلَى حَالَةِ الْخَفْضِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ وَمَا مَسَحَ قَطُّ، وَبِأَنَّهُ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ، فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ»، «وَ وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ».
فَتَوَعَّدَ بِالنَّارِ عَلَى تَرْكِ إيعَابِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ الرِّجْلَيْنِ مَمْسُوحَتَانِ لَمْ يَعْلَمْ بِوَعِيدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ إيعَابِهِمَا.
وَطَرِيقُ النَّظَرِ الْبَدِيعِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَتَانِ، وَأَنَّ اللُّغَةَ تَقْضِي بِأَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ، فَرَدَّهُمَا الصَّحَابَةُ إلَى الرَّأْسِ مَسْحًا، فَلَمَّا قَطَعَ بِنَا حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَفَ فِي وُجُوهِنَا وَعِيدُهُ، قُلْنَا: جَاءَتْ السُّنَّةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ النَّصْبَ يُوجِبُ الْعَطْفَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَدَخَلَ بَيْنَهُمَا مَسْحُ الرَّأْسِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَظِيفَتُهُ كَوَظِيفَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ قَبْلَ الرِّجْلَيْنِ لَا بَعْدَهُمَا، فَذُكِرَ لِبَيَانِ التَّرْتِيبِ لَا لِيَشْتَرِكَا فِي صِفَةِ التَّطْهِيرِ، وَجَاءَ الْخَفْضُ لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ يُمْسَحَانِ حَالَ الِاخْتِيَارِ عَلَى حَائِلٍ، وَهُمَا الْخُفَّانِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَعَطَفَ بِالنَّصْبِ مَغْسُولًا عَلَى مَغْسُولٍ، وَعَطَفَ بِالْخَفْضِ مَمْسُوحًا عَلَى مَمْسُوحٍ، وَصَحَّ الْمَعْنَى فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ وَإِنْ قَرَأْتُمُوهَا بِالنَّصْبِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى الرُّءُوسِ مَوْضِعًا، فَإِنَّ الرُّءُوسَ وَإِنْ كَانَتْ مَجْرُورَةً لَفْظًا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا مَفْعُولَةٌ، فَكَيْفَ قَرَأْتهَا خَفْضًا أَوْ نَصْبًا فَوَظِيفَتُهَا الْمَسْحُ مِثْلُ الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ.
قُلْنَا: يُعَارِضُهُ أَنَّا وَإِنْ قَرَأْنَاهَا خَفْضًا، وَظَهَرَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ فَقَدْ يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ بِفِعْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِهِ: عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا فِعْلًا فَرُوعَ الْأَيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنِعَامُهَا وَكَقَوْلِهِ: شَرَّابُ أَلْبَانٍ وَتَمْرٍ وَأَقِطٍ تَقْدِيرُهُ: عَلَفْتهَا تِبْنًا وَسَقَيْتهَا مَاءً.
وَمُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَحَامِلًا رُمْحًا، وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَفَرَّخَتْ نِعَامُهَا.
وَشَرَّابُ أَلْبَانٍ وَآكِلُ تَمْرٍ وَأَقِطٍ.
فَإِنْ قِيلَ: هَاهُنَا عَطَفَ وَشَرَكَ فِي الْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولًا اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِلْحَقِيقَةِ.
قُلْنَا: وَهَا هُنَا عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرُّءُوسِ وَشَرَكَهُمَا فِي فِعْلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولُهُ، تَعْوِيلًا عَلَى بَيَانِ الْمَبْلَغِ، فَقَدْ بَلَغَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ مَمْسُوحَةً تَحْتَ الْخُفَّيْنِ؛ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْبَيَانِ؛ وَقَدْ أَفْرَدْنَاهَا مُسْتَقِلَّةً فِي جُزْءٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا ثَبَتَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَامَةٌ مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ.
فَإِنْ قِيلَ: هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ بَاطِلٌ.
قُلْنَا: خَبَرُ الْوَاحِدِ أَصْلٌ عَظِيمٌ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا زَائِغٌ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَقَدْ جَمَعْنَاهُ فِي جُزْءٍ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: إنَّهَا مَرْوِيَّةٌ تَوَاتُرًا؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى نَقْلِهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى آحَادٍ، كَمَا أُضِيفَ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ إلَى الْقُرَّاءِ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ.
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إلَى الْكَعْبَيْنِ}: اُخْتُلِفَ فِيهِمَا؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجَمَاعَةُ: إنَّهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي الْمِفْصَلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالرِّجْلِ.
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنَّهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي وَجْهِ الْقَدَمِ؛ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْكَعْبُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.
وَالْعَقِبُ هُوَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ، وَتَقْتَضِي لُغَةُ الْعَرَبِ أَنَّ كُلَّ نَاتِئٍ كَعْبٌ، يُقَالُ: كَعْبُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ إذَا بَرَزَ عَنْ صَدْرِهَا.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّرَاكُ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ بِهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَايَةٍ لَهُمَا وَلَا بِبَعْضِ مَعْلُومٍ مِنْهُمَا، وَالْإِحَالَةُ عَلَى الْمَجْهُولِ فِي التَّكْلِيفِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْبَيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَلَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ؛ فَبَطَلَ؛ بَلْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِضِدِّهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ».
وَهَذَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ حِذَاءَهُ لَا فَوْقَهُ، يَعْضُدُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} وَلَوْ قَالَ: أَرَادَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ لَقَالَ إلَى الْكِعَابِ، كَمَا قَالَ: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَلْبٌ وَاحِدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْكَعْبَيْنِ كَالْقَوْلِ فِي دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي السَّاقِ، كَمَا أَنَّ الْمِرْفَقَ فِي الْعَضُدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّك إذَا غَسَلْت السَّاعِدَ إلَى الْمِرْفَقِ فَالْمِرْفَقُ آخِرُ الْعَضُدِ، وَإِذَا غَسَلْت الْقَدَمَ إلَى الْكَعْبَيْنِ فَالْكَعْبَانِ آخِرَ السَّاقَيْنِ، فَرَكِّبْهُ عَلَيْهِ وَافْهَمْهُ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ: وَذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ مُسْتَحَبٌّ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْجَمِيعِ، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَلِّلُوا بَيْنَ الْأَصَابِعِ لَا تَتَخَلَّلُهَا النَّارُ».
وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَلِّكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ».
وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِالدَّلْكِ، غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّ تَخْلِيلَهَا بِالْمَاءِ يُقَرِّحُ بَاطِنَهَا، وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ، وَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ فِي تَخْلِيلٍ تَتَقَرَّحُ بِهِ الْأَقْدَامُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: نَزَعَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إلَى أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، لِأَنَّهُ قَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ}؛ تَقْدِيرُهُ كَمَا سَبَقَ: وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، فَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِنْجَاءَ، وَذَكَرَ الْوُضُوءَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ أَوَّلَ مَبْدُوءٍ بِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا لَا ذَاكِرًا وَلَا نَاسِيًا؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: تَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ وَتَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ إذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ يُرِيدُ الْكَبِيرَ الَّذِي هُوَ عَلَى هَيْئَةِ الْمِثْقَالِ قِيَاسًا عَلَى فَمِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ وَتَفْرِيعُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْفُرُوعِ.
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ.
وَلَا حُجَّةَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا بَيَّنَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ صِفَةَ الْوُضُوءِ خَاصَّةً، وَلِلصَّلَاةِ شُرُوطٌ: مِنْ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَبَيَانُ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.